دمع الفــــــــراق

عبق ٌ يفوح بأرجاء الزمن ... ينشر العطر عبر ثنايا الأيام و الشهور و السنين .. " هى جدتى " ريحانة الدار الكبير ة .. و ملاذنا من عقاب الأب أو الأم إن أخطأنا و نحن صغار أو حتى بعد أن كبرنا ... هى السمر الشغوف فى ليالى الصيف على سطح الدار .. و هى حكاوى الشتاء الدافئة إذا ما أعلنت الطبيعة عن ثورتها .
بسمةٌ حنون .. كانت تميمتنا و حجابنا فى وجه الزمن العبوس .. كانت الدار الكبيرة هى الملتقى .. هى البراح إن ضاقت بنا الدنيا .. وهى عطر الذكرى و أريج الحكمة التى تخرج من شفاهها و كأنها نهرٌ ينبع من تجارب زمنٍ تقلب ما بين الأفراح و الأتراح فباتت صاحبته المرجع و باتت هى السراج فى ظلام الأيام حين تغيب الفكرة خلف تداعيات الزمن فلا نستبين ملامح الطريق نحن الأحفاد و الأبناء إلا منها ..
كأنها قرأت كتب التاريخ .. و كأنها درست فلسفة القدامى من الإغريق و الرومان .. و كأنها سارت فى شوارع طيبة و منف فاستقت من الفراعنة الحكمة و التحضر ..
بسيطٌ جداً كان مظهرها .. و الجوهر كان عظيماً و بهياً .. سهلة ٌ و مستساغةٌ كلماتها .. و لكن دقق الفكر جيداً فتتوه بين الكلمات ..
رجلاً يافعا صرت .. و صرت ضابطاً أحمل على كتفى رتبة عسكرية و هى ما زالت تقول لى " يا ولد " تزوجت و أنجبت ثلاث و هى ما زالت تقولها لى أمام أياً ما كان .. و تصفعنى على وجهى برفق و هوادة و كأنها تتلمس زهرة رقيقة فأميل على يدها المجهدة و المرسوم عليها خرائط الزمن لكى أقبلها فتأبى إلا أن تأخذ رأسى بين يديها و تطبع قبلةً على جبينى تمسح عنى كل الألم .
ماتت الجدة .. ماتت الأم الحنون التى بقيت حتى آخر عمرها تلون لى البيض بيديها إذا أتى شم النسيم ..
فى العزاء إنزويت فى ركنٍ بعيد .. بكيت كثيراً .. لكننى ابتسمت كثيراً فقد رأيتها تمد يديها و تمسح عن وجنتى دمع الفراق